نداء إنساني.. كيف يمكن حماية حقوق مواطني البصرة من ارتفاع الأسعار وانهيار الخدمات؟
نداء إنساني.. كيف يمكن حماية حقوق مواطني البصرة من ارتفاع الأسعار وانهيار الخدمات؟
أطلق مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة إنذارات متكررة حول وضع المحافظة، مؤكداً أن البصرة تعيش أعلى ارتفاع للأسعار في العراق عبر قطاعات التعليم والصحة والسكن وغيرها، وأن سيادة القطاع الخاص والنفوذ العائلي جعلت الطبقات الفقيرة والمتوسطة عرضة للتهميش الاقتصادي والبيئي، في وقت تعاني فيه المحافظة أزمة مياه حادة وتلوثاً بيئياً يهدّد سبل العيش.
وطالبت المفوضية الحقوقية مجلس المسؤولين المختصين بالمحافظة، وكذلك المحافظ، بالنزول الميداني واتخاذ إجراءات رقابية مستمرة وفاعلة وفق قناة السومرية العراقية.
حجم الأزمة ومن يتأثر
تواجه المحافظة التي يقطنها ملايين السكان حالة إنسانية مركّبة: أزمات مائية وبيئية واقتصادية واجتماعية تتقاطع لتؤثر في حياة الأسر اليومية.
البصرة محافظة ذات امتداد سكاني يمتد إلى ملايين عبر محافظتها، وفي مناطق واسعة تشهد خسائر في مصادر رزق مثل الزراعة والثروة السمكية. وبحسب تقارير أممية وميدانية، أدت تدهورات نوعية في المياه وجودتها إلى تأثير الأزمة في مليوني نسمة في حال شمل انتشار الملوحة والتلوّث؛ في حين أشارت تقارير محلية إلى أن نسبة كبيرة من السكان تعاني حرماناً من خدمات أساسية أو حالات فقر متعددة الأبعاد.
الارتفاع الحاد للأسعار وتآكل القدرة الشرائية
تتداخل أسباب الارتفاعات المحلية بأسعار السلع والخدمات في البصرة بين عوامل بيئية وإدارية واقتصادية منها: أولاً، الأزمة المائية المتمثلة في ازدياد الملوحة وتسرّب التلوث الصناعي، حيث أضرت بالإنتاج الزراعي وصيد الأسماك وأجّجت انخفاض العرض المحلي للغذاء، ما دفع الأسعار للارتفاع، وقد أظهرت تقنيات مراقبة التلوث تراكيز ملحية وملوثات صناعية في مساحات شاسعة تؤثر في الإنتاج والحياة الزراعية والحيوانية، ثانياً، ضعف شبكات التوزيع والبنية التحتية للمياه والمرافق الصحية يرفع تكاليف المعالجة ويضر بالقدرة التنافسية للسوق المحلية، وثالثاً، يشير مكتب المفوضية إلى هيمنة قطاع خاص نافذ ونمط من المحاصصة التي تسمح بتشغيل أسواق غير شفافة تؤثر في الأسعار، ما يزيد أعباء الأسر وسط قيود مالية. ويجدر الملاحظة أن هذا الارتفاع المحلي يبرز في وقت يبقى فيه التضخم الوطني منخفضاً أو متذبذباً، ما يجعل صدمة الأسعار المحلية أمراً غير مفسّر بالكامل بالمؤشرات الاقتصادية الكلية للعراق.
التداعيات الإنسانية المباشرة والمتفاقمة
النتيجة المباشرة لارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات تتمثل في إخراج العديد من الأسر من دائرة الأمن الغذائي والوصول إلى الرعاية الصحية والسكن اللائق. وتسبب مياه الشرب غير الصالحة أو الملوثة أمراضاً معوية ومشكلات صحية مزمنة، وتدمير مصايد الأسماك وإغلاق المزارع أدّى إلى فقدان مصادر دخل لآلاف العائلات، ويتحمل قطاع الصحة أعباءً إضافية مع ارتفاع تكاليف العلاج والفحوصات، في حين يضطر الطلبة والأسر إلى تقليل الإنفاق على التعليم والاحتياجات الأساسية، وهذه التأثيرات تُفاقم عدم المساواة وتضع حقوقاً اقتصادية واجتماعية أساسية (كالحق في مستوى معيشي ملائم، والحق في الصحة، والحق في التعليم) على المحك.
ردود الفعل الحقوقية والمحلية والدولية
ردّت منظمات حقوقية محلية ودولية على تحذيرات المفوضية، مؤكدة أن مشكلات المياه والتلوث وتحكم السوق تمثل قضايا حقوقية وليست مجرد أزمات تقنية، وسبق أن وثّقت منظمات حقوقية دولية فشل حماية الحق في المياه والصحة في البصرة ودعت إلى استجابة شاملة تراعي حقوق المتضررين، كما دعت هيئات أممية إلى اعتماد سياسات تستند إلى حقوق الإنسان في إدارة المياه والطاقة والبيئة، وتأمين وصول مستقل للمراقبين والجهات الإنسانية إلى المناطق المتأثرة. وعلى المستوى المحلي، تصاعدت الدعوات لسياسات رقابية وسحب الامتيازات غير المنظمة ومراجعة عقود تخصيص الخدمات التي تُحمّل السكان تكاليف إضافية بحسب "هيومن رايتس ووتش".
الإطار القانوني الدولي والالتزامات الوطنية
العراق طرف في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما يفرض التزامات قانونية بخصوص حماية الحقوق الأساسية المتعلقة بالمستوى المعيشي، كالحق في الصحة والمياه الصالحة للشرب، كما اعترفت الأمم المتحدة بحقوق الماء والصرف الصحي أساساً لكرامة الإنسان، وترتّب على الدولة واجباً قانونياً لاتخاذ تدابير تدريجية لحماية هذه الحقوق، ومنها تنظيم الأسواق، وضمان توزيع عادل للخدمات، ومحاربة التلوث عبر تطبيق تشريعات بيئية فعالة، وفشل التنفيذ أو الإهمال الذي يسمح بانتشار تلوث سام أو موجات ارتفاع أسعار يعرض الدولة للمساءلة الحقوقية داخلياً وخارجياً.
أزمة طويلة وليس مفاجئة
لا تشكل أزمة البصرة الحالية منعطفاً مفاجئاً تماماً؛ فقد انفجرت احتجاجات كبيرة في 2018 بسبب تردّي وضع المياه والخدمات، في حين وثّقت تقارير حقوقية منذ سنوات فشل السياسات البيئية وإهمال البنية التحتية. والتراكم التاريخي من الحروب، والإهمال البيئي، وتدخّلات القطاع الصناعي عززت هشاشة المحافظة وجعلها عرضة لصدمات مناخية واقتصادية متكررة، وهذا التاريخ يبيّن أن الحلول تتطلب أكثر من إجراءات مرحلية؛ تتطلب إصلاحات بنيوية واستراتيجية طويلة المدى.
توصيات قابلة للتنفيذ لحماية المواطنين
الأولوية تتطلب إجراءات سريعة ومتكاملة منها: تنفيذ حملات رقابية يومية على أسعار السلع الأساسية وإلزام متاجر الجملة بسياسات شفافة، وفرض قيود مؤقتة على الاحتكار وتفتيش عقود الامتياز، وتوفير إدخال طارئ لمياه معبأة وسعة معالجة، ودعم مباشر للأسر الأشد فقراً عبر قسائم غذائية أو دعم نقدي مستهدف، واستثمار فوري في إصلاح محطات معالجة المياه وشبكات التوزيع، إلى جانب ذلك، يجب فتح تحقيق مستقل في شكاوى التلوث الصناعي وفرض مساءلات على الشركات الملوِّثة، وإطلاق برامج تعويض وإعادة تأهيل لمتضرري المزارع والمصائد، كما يلزم تعاون إقليمي لمعالجة قضايا الموارد المائية العابرة للحدود، وأخيراً، من الضروري إشراك المجتمع المدني المحلي في كل خطوة لضمان الشفافية وتوجيه الموارد نحو المتضررين فعلاً.